فصل: تفسير الآيات (42- 44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (37):

{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)}
أي: لن يصيب رضا الله اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المهراقة بالنحر، والمراد أصحاب اللحوم والدماء، والمعنى: لن يرضي المضحون والمقرّبون ربهم إلا بمراعاة النية والإخلاص والاحتفاظ بشروط التقوى في حلّ ما قرب به، وغير ذلك من المحافظات الشرعية وأوامر الورع. فإذا لم يراعوا ذلك، لم تغن عنهم التضحية والتقريب وإن كثر ذلك منهم. وقرئ: {لن تنال الله، ولكن تناله} بالتاء والياء. وقيل: كان أهل الجاهلية إذا نحروا البدن نضحوا الدماء حول البيت ولطخوه بالدم، فلما حجّ المسلمون أرادوا مثل ذلك، فنزلت.
كرّر تذكير النعمة بالتسخير ثم قال: لتشكروا الله على هدايته إياكم لأعلام دينه ومناسك حجّه، بأن تكبروا وتهللوا، فاختصر الكلام بأن ضمن التكبير معنى الشكر، وعدى تعديته.

.تفسير الآية رقم (38):

{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)}
خصّ المؤمنين بدفعه عنهم ونصرته لهم، كما قال: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين ءامَنُواْ} [غافر: 51] وقال: {إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون} [الصافات: 172] وقال: {وأخرى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13] وجعل العلة في ذلك أنه لا يحب أضدادهم: وهم الخونة الكفرة الذين يخونون الله والرسول ويخونون أماناتهم ويكفرون نعم الله ويغمطونها. ومن قرأ: {يُدَافِعُ} فمعناه يبالغ في الدفع عنهم، كما يبالغ من يغالب فيه؛ لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ.

.تفسير الآيات (39- 41):

{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)}
{أَذِنَ} و{يقاتلون} قرئا على لفظ المبني للفاعل والمفعول جميعاً: والمعنى: أذن لهم في القتال، فحذف المأذون فيه لدلالة يقاتلون عليه {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} أي بسبب كونهم مظلومين وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان مشركو مكة يؤذونهم أذى شديداً، وكانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه، فيقول لهم: «اصبروا فإني لم أومر بالقتال»، حتى هاجر فأنزلت هذه الآية، وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية. وقيل: نزلت في قوم خرجوا مهاجرين فاعترضهم مشركو مكة فأذن لهم في مقاتلتهم. والإخبار بكونه قادراً على نصرهم عدة منه بالنصر واردة على سنن كلام الجبابرة، وما مرّ من دفعه عن الذين آمنوا مؤذن بمثل هذه العدة أيضاً: {أَن يَقُولُواْ} في محل الجرّ على الإبدال من {حَقٍّ} أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتسيير. ومثله: {هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بالله} [المائدة: 59].
دفع الله بعض الناس ببعض: إظهاره وتسليطه المسلمين منهم على الكافرين بالمجاهدة، ولولا ذلك لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم، وعلى متعبداتهم فهدموها، ولم يتركوا للنصارى بيعاً، ولا لرهبانهم صوامع، ولا لليهود صلوات، ولا للمسلمين مساجد. أو لغلب المشركون من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم على المسلمين وعلى أهل الكتاب الذين في ذمتهم وهدموا متعبدات الفريقين. وقرئ: {دفاع} ولهدمت: بالتخفيف. وسميت الكنيسة (صلاة) لأنه يصلى فيها. وقيل: هي كلمة معرّبة، أصلها بالعبرانية: صلوثا {مَن يَنصُرُهُ} أي ينصر دينه وأولياءه: هو إخبار من الله عزّ وجلّ بظهر الغيب عما ستكون عليه سيرة المهاجرين رضي الله عنهم إن مكنهم في الأرض وبسط لهم في الدنيا، وكيف يقومون بأمر الدين.
وعن عثمان رضي الله عنه: هذا والله ثناء قبل بلاء. يريد: أنّ الله قد أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا. وقالوا: فيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين؛ لأنّ الله لم يعط التمكين ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة غيرهم من المهاجرين، لاحظ في ذلك للأنصار والطلقاء.
وعن الحسن: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: {الذين} منصوب بدل من قوله من ينصره. والظاهر أنه مجرور، تابع للذين أخرجوا {وَلِلَّهِ عاقبة الأمور} أي مرجعها إلى حكمه وتقديره. وفيه تأكيد لما وعده من إظهار أوليائه وإعلاء كلمتهم.

.تفسير الآيات (42- 44):

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)}
يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم تسلية له: لست بأوحدي في التكذيب، فقد كذب الرسل قبلك أقوامهم، وكفاك بهم أسوة.
فإن قلت: لم قيل: {وَكُذّبَ موسى} ولم يقل: قوم موسى؟ قلت: لأنّ موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط. وفيه شيء آخر، كأنه قيل بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم: وكُذِّبَ موسى أيضاً مع وضوح آياته وعظم معجزاته، فما ظنك بغيره.
{نَكِيرِ} التنكير: بمعنى الإنكار والتغيير، حيث أبدلهم بالنعمة محنة، وبالحياة هلاكاً، وبالعمارة خراباً.

.تفسير الآية رقم (45):

{فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)}
كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة أو كرم فهو (عرش) والخاوي: الساقط، من خوى النجم إذا سقط. أو الخالي، من خوى المنزل إذا خلا من أهله. وخوى بطن الحامل وقوله: {على عُرُوشِهَا} لا يخلو من أن يتعلق بخاوية، فيكون المعنى أنها ساقطة على سقوفها، أي خرّت سقوفها على الأرض، ثم تهدّمت حيطانها فسقطت فوق السقوف. أو أنها ساقطة أو خالية مع بقاء عروشها وسلامتها. وإما أن يكون خبراً بعد خبر، كأنه قيل: هي خالية، وهي على عروشها أي قائمة مطلة على عروشها، على معنى أنّ السقوف سقطت إلى الأرض فصارت في قرار الحيطان وبقيت الحيطان ماثلة فهي مشرفة على السقوف الساقطة. فإت قلت: ما محلّ الجملتين من الإعراب أعني: {وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ}؟ قلت: الأولى في محل النصب على الحال، والثانية لا محلّ لها لأنها معطوفة على أهلكناها، وهذا الفعل ليس له محلّ [(وبئر معطلة)] وقرأ الحسن: معطلة، من أعطله بمعنى عطله. ومعنى المعطلة: أنها عامرة فيها الماء، ومعها آلات الاستقاء؛ إلا أنها عطلت، أي: تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها (وقصر مشيد) والمشيد: المجصص أو المرفوع البنيان. والمعنى: كم قرية أهلكنا؟ وكم بئر عطلنا عن سقاتها؟ وقصر مشيد أخليناه عن ساكنيه؟ فترك ذلك لدلالة معطلة عليه. وفي هذا دليل على أنّ {على عُرُوشِهَا} بمعنى (مع) أوجه. روي: أنّ هذه بئر نزل عليها صالح عليه السلام مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به. ونجاهم الله من العذاب، وهي بحضرموت. وإنما سميت بذلك لأنّ صالحاً حين حضرها مات، وثمة بلدة عند البئر اسمها (حاضوراء) بناها قوم صالح، وأمّروا عليهم جلهس بن جلاس، وأقاموا بها زماناً ثم كفروا وعبدوا صنماً، وأرسل الله إِليهم حنظلة ابن صفوان نبياً فقتلوه، فأهلكهم الله وعطل بئرهم وخرّب قصورهم.

.تفسير الآية رقم (46):

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)}
يحتمل أنهم لم يسافروا فحثّوا على السفر؛ ليروا مصارع من أهلكهم الله بكفرهم، ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا. وأن يكونوا قد سافروا ورأوا ذلك ولكن لم يعتبروا، فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا. وقرئ: {فيكون لهم قلوب} بالياء، أي: يعقلون ما يجب أن يعقل من التوحيد، ويسمعون ما يجب سماعه من الوحي {فَإِنَّهَا} الضمير ضمير الشأن والقصة، يجيء مذكراً ومؤنثاً، وفي قراءة ابن مسعود: فإنه. ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً يفسره {الأبصار} وفي تعمى ضمير راجع إليه. والمعنى: أنّ أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها. وإنما العمى بقلوبهم. أولا يعتدّ بعمى الأبصار، فكأنه ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب.
فإن قلت: أي فائدة في ذكر الصدور؟ قلت: الذي قد تعورف واعتقد أنّ العمى على الحقيقة مكانه البصر، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها. واستعماله في القلب استعارة ومثل، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف، ليتقرّر أنّ مكان العمى هو القلوب لا الأبصار، كما تقول: ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك، فقولك: (الذي بين فكيك) تقرير لمّا ادّعيته للسانه وتثبيت لأنّ محلّ المضاء هو هو لا غير، وكأنك قلت: ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة ولا سهواً مني، ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمداً.

.تفسير الآيات (47- 48):

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)}
أنكر استعجالهم بالمتوعد به من العذاب العاجل أو الآجل، كأنه قال: ولم يستعجلون به؟ كأنهم يجوّزون الفوت، وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف، والله عزّ وعلا لا يخلف الميعاد وما وعده ليصيبنهم ولو بعد حين، وهو سبحانه حليم لا يعجل، ومن حلمه ووقاره واستقصاره المدد الطوال أنّ يوماً واحداً عنده كألف سنة عندكم. قيل: معناه كيف يستعجلون بعذاب من يومٌ واحد من أيام عذابه في طول أَلف سنة من سنيكم؛ لأن أيام الشدائد مستطالة. أو كأن ذلك اليوم الواحد لشدة عذابه كألف سنة من سني العذاب. وقيل: ولن يخلف الله وعده في النظرة والإمهال. وقرئ: {تعدون} بالتاء والياء، ثم قال: وكم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين قد أنظرتهم حيناً ثم أخذتهم بالعذاب والمرجع إليّ وإلى حكمي.
فإن قلت: لم كانت الأولى معطوفة بالفاء، وهذه بالواو؟ قلت: الأولى وقعت بدلاً عن قوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: 44]، [سبأ: 45]، [فاطر: 26]، [الملك: 18] وأمّا هذه فحكمها حكم ما تقدّمها من الجملتين المعطوفتين بالواو، أعني قوله: {وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ}.

.تفسير الآيات (49- 51):

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)}
يقال: سعيت في أمر فلان، إذا أصلحه أو أفسده بسعيه. وعاجزه: سابقه؛ لأنّ كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به، فإذا سبقه قيل: أعجزه وعجزه. والمعنى: سعوا في معناها بالفساد من الطعن فيها، حيث سموها: سحراً وشعراً وأساطير، ومن تثبيط الناس عنها سابقين أو مسابقين في زعمهم، وتقديرهم طامعين أن كيدهم للإسلام يتمّ لهم.
فإن قلت: كأن القياس أن يقال: إنما أنا لكن بشير ونذير، لذكر الفريقين بعده.
قلت: الحديث مسوق إلى المشركين. و{ياأيها الناس}: نداء لهم، وهم الذين قيل فيهم: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض} [يوسف: 109]، [الحج: 46]، [غافر: 82]، [محمد: 10] ووصفوا بالاستعجال. وإنما أفحم المؤمنون وثوابهم ليغاظوا.

.تفسير الآية رقم (52):

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)}
{مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ} دليل بيّن على تغاير الرسول والنبي.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الأنبياء فقال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً» قيل: فكم الرسل منهم؟ قال: «ثلثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً» والفرق بينهما أن الرسول من الأنبياء: من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه. والنبي غير الرسول: من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله. والسبب في نزول هذه الآية: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أعرض عنه قومٌ وشاقوه وخالفه عشيرته ولم يشايعوه على ما جاء به: تمنى لفرط ضجره من إعراضهم ولحرصه وتهالكه على إسلامهم أن لا ينزل عليه ما ينفرهم، لعله يتخذ ذلك طريقاً إلى استمالتهم واستنزالهم عن غيهم وعنادهم، فاستمرّ به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة {والنجم} وهو في نادي قومه، وذلك التمني في نفسه، فأخذ يقرؤها فلما بلغ قوله: {ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 20]: {أَلْقَى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ} التي تمناها، أي: وسوس إليه بما شيعها به، فسبق لسانه على سبيل السهو والغلط إلى أن قال: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهنّ لترتجى.
وروي: الغرانقة، ولم يفطن له حتى أدركته العصمة فتنبه عليه، وقيل: نبهه جبريل عليه السلام. أو تكلم الشيطان بذلك فأسمعه الناس قيل فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي وطابت نفوسهم، وكان تمكين الشيطان من ذلك محنة من الله وابتلاء، زاد المنافقون به شكاً وظلمة، والمؤمنون نوراً وإيقاناً. والمعنى: أن الرسل والأنبياء من قبلك كانت هجيراهم كذلك إذا تمنوا مثل ما تمنيت، مكن الله الشيطان ليلقي في أمانيهم مثل ما ألقى في أمنيتك، إرادة امتحان من حولهم، والله سبحانه له أن يمتحن عباده بما شاء من صنوف المحن وأنواع الفتن، ليضاعف ثواب الثابتين، ويزيد في عقاب المذبذبين. وقيل: {تمنى}: قرأ. وأنشد:
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ ** تَمَنِّي دَاوُدَ الرَّبُورَ عَلَى رِسْلِ

وأمنيته: قراءته. وقيل: تلك الغرانيق: إشارة إلى الملائكة، أي: هم الشفعاء لا الأصنام {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان} أي يذهب به ويبطله {ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته} أي يثبتها.